الثلاثاء، 17 أبريل 2012

ديمقراطية بلا ديمقراطيين ... بقلم د/ عمرو الشوبكى


هو عنوان كتاب أصدره وزير الثقافة اللبنانى الأسبق، أستاذ العلوم السياسية فى باريس، غسان سلامة منذ أكثر من ربع قرن، وتحدث عن مشكلة بناء نظام ديمقراطى فى ظل غياب ديمقراطيين حقيقيين، والمقصود هنا ليس غياب الثقافة الديمقراطية وارتفاع نسبة الأمية، وهى كلها عوامل مهمة تعرقل عملية التحول الديمقراطى، إنما غياب المؤسسات الديمقراطية واحترام المتنافسين للقانون وخضوعهم الكامل لسلطانه.
والواقع أن فى الحالة المصرية توجد شكوك كبيرة فى نزاهة أى انتخابات وعدم وجود أى ثقة فى مؤسسات الدولة حتى القضاء، وصار تهديد مرشح الإخوان والشيخ حازم أبوإسماعيل بالثورة الثانية، احتجاجا على حكم قانونى وقضائى أصدرته الهيئة العليا للانتخابات، يدل على ضعف إيمان قطاع واسع من النخبة السياسية بالقانون، ويدل على حجم المأساة التى تعيشها البلاد والتحديات الملقاة عليها.
فالنزاهة المؤكدة التى أديرت بها الانتخابات التشريعية - رغم ما شابها من تجاوزات - كانت نتيجة إشراف القضاء المصرى عليها وحياد المؤسسة العسكرية والسلطة التنفيذية، وهو أمر قد يختلف فى حال وصل حزب سياسى إلى سدة الحكم واحتمال أن يؤثر على حياد مؤسسات الدولة المشرفة على الانتخابات كما جرى فى فترات سابقة. أى أن الوضع الحالى يكاد يكون مثالياً، ولن يتكرر، لأن الأطراف المشرفة على الانتخابات مازالت خارج تأثير المعادلة الحزبية.
ومع ذلك هناك حملة رهيبة تشن ضد الدولة ومؤسساتها من قبل بعض مرشحى الرئاسة، وتلقى بظلال قوية على درجة إيمانهم بالديمقراطية وعلى الطريقة التى سيتعاملون بها مع خصومهم السياسيين فى حال وصلوا للسلطة، فهل يعقل أن تجرى كل هذه التعبئة والتحريض السياسى ضد الدولة ومؤسساتها، نتيجة التزامها بالقانون، الذى نص بشكل قاطع على عدم أحقية ترشح أى مواطن مصرى لمنصب الرئاسة، فى حال ثبت أنه أو أحد أبويه يحمل جنسية أجنبية، وهو نص رغم معارضتنا له فإن احترامه أمر بديهى طالما كان نصاً قانونياً.
والمؤسف أن رد فعل الشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره كان حول أحقيته فى الترشح «ولازم حازم»، بصرف النظر عما إذا كان ينطبق عليه الشروط القانونية أم لا، وبدا احترام القانون وكأنه أمر ثانوى أمام أحقية الرجل ليس فقط فى الترشح إنما فى الفوز.
وإذا كنا شهدنا اقتحام مداخل مجلس الدولة وحصار الهيئة العليا للانتخابات من قبل أنصار أبوإسماعيل فى مسألة قطعية لا تحتمل أنصاف الحلول، فإما أن والدته تحمل الجنسية الأمريكية - كما تدل كل المؤشرات - أو لا تحملها، وطالما حسم الموضوع بالأدلة والوثائق التى لا تقبل اللبس، فكيف يمكن لمرشح رئاسة أن يحرض علنا ضد قانون، وماذا سيفعل أنصاره فى حال إذا ترشح فى الانتخابات وخسر، وأى تهم يمكن أن تكال ضد القضاء، وأى ردود فعل يمكن أن نراها داخل المجتمع؟!
إن شرط نجاح أى تجربة ديمقراطية هو فى ترسخ المؤسسات الديمقراطية بصورة تفرض على غير المؤمنين بالديمقراطية ضرورة احترامها، فدولة القانون هى الطريق الوحيد لبناء الديمقراطية حتى لو كان هناك من لا يؤمن بها.

الأحد، 15 أبريل 2012

الغلو فى الخصومة ـ مرة أخرى ... بقلم : د/ معتز بالله عبد الفتاح

بسذاجة شديدة كتبت من قبل تحت نفس هذا العنوان نفس هذا المقال الذى ستقرأونه على أمل أن يقرأه البعض وقد يستفيدون منه. ولكننى أرى أمام عينى من يفعل كل ما حذرت منه؛ فنجد من هو مستعد أن يهدم فكرة «حكم القانون» حتى يبقى مرشحه فى سباق الرئاسة. وقد تنهار الدولة، المهم أن مرشحى يفوز. اقرأوا هذه المقالة المعادة بمنطق أنها «تنفيسة» وكى يعرف من يعنيه الأمر حين أتوقف عن الكتابة، لماذا توقفت.

الإمام مالك يقول: «إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتم ويسب ويغضب فاعلم أنه معلول النية لأن الحق لا يحتاج إلى هذا». ويقول ديفيد هيوم: «قوة المنطق لا بد أن تكون أقوى وأكثر منطقية من منطق القوة، وإلا اختفى المجتمع». وكما قلت من قبل. لا أخشى على مصر من إسرائيل أو أى دولة أجنبية. أخشى على مصر من بعض المصريين حين يضعون الشخص فوق المبدأ، الذات فوق المجموع، النفس فوق العقل. نعم أخشى على مصر من المصريين حين يفكرون بمنطق الثأر وليس بمنطق العدل؛ بمنطق الماضى وليس بمنطق المستقبل، بمنطق العصبية وليس بمنطق التعددية.

أخشى على مصر من بعض ضعاف العلم والمهارة والدقة من الملتحقين بأجهزة الإعلام الهماز المشاء بنميم الذى يفتقد الكثير من القدرة أو الرغبة فى نقل الحقيقة حتى وإن كانت واضحة أمامه.

أخشى على مصر حين يفكر بعض المصريين بمنطق وما الذى سأستفيد إن فعلت أو قلت الخير، وكأن الخير للآخرين ليس سببا كافيا فى أن نفعل الخير.

أخشى على مصر حين يتحزب أهلها ويتعصبون فتضيع منهم القضية. هل تتذكرون حينما خرج بعض المصريين منتصرين لسعد زغلول ورافضين لعدلى يكن حتى ولو كان على حساب القضية رافعين شعار: «الاحتلال مع سعد خير من الاستقلال مع عدلى»؟

هذه عصبية بغيضة إن تمكنت من قوم أفقدتهم صوابهم، هى نفس العصبية البغيضة التى جعلت أتباع مسيلمة الكذاب يدافعون عنه لأنه من قبيلة «رَبيعة» ولم يؤمنوا بالرسول محمد لأنه من قبيلة مُضر قائلين: «كذاب رَبيعة أحب إلينا من صادق مُضر».

أخشى على مصر من كثرة الجدل وحب إثبات الذات وأن يظن أحدهم أن رأيه من كرامته، وممن يرون الشطط الخطأ الذى يخرج عنهم أفضل من الصواب المعقول الذى يخرج ممن يخالفهم.

أخشى على مصر ممن يسارعون فى «تبديع وتفسيق وتكفير» المخالفين لهم فى الرأى الشرعى وكأن لا دين إلا لهم وكأن ما قرأوه أو الشيخ الذى تعلموا عليه هو بداية العلم ونهايته.

أخشى على مصر ممن يرى أن مصلحته تفوق وتجب مصالح الآخرين. إن قرر أن يحتفل استخدم مكبرات الصوت وكأنه لا يوجد غيره على وجه الأرض. وإن قرر أن ينجب، لم يفكر فى أن الله لن يسأله عن عدد الذين أنجبهم وإنما عن حسن تربيته لمن أنجب. وإن قرر أن يشجع أو يؤيد مرشحا كان شغله الشاغل أن ينال من المرشحين الآخرين وكأن دعمه لمرشحه أو حزبه لا يستقيم إلا إذا شوه الآخرين.

ومع ذلك لى رهان على أن العقلاء لن يسكتوا إن رأوا الخطأ أمامهم، وأنهم سيدعون الآخرين إلى العقلانية والرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.

ثورتنا أزالت عنا سلطة الاستبداد، وما ينهض بالمجتمع الآن هو سلطة العرف والدين والرغبة فى العيش المشترك عند أغلبنا. نريد أن ننتقل بسرعة إلى دولة حقيقية قوامها مؤسسات قادرة على أن تعيد للقانون قيمته وكما جاء فى الأثر: «إن الله يزع (أى يردع) بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن».

غسيل عمر سليمان ... بقلم : فهمى هويدى


كم واحد قتلوا فى سجن المخابرات العامة أثناء رئاسة اللواء عمر سليمان لها؟ ــ لا أحد يملك الإجابة على السؤال ــ وبوسع الرجل أن يحلف بالثلاثة على أن أحدا لم يقتل، وربما قال أيضا إنه لا يوجد سجن فى مقر المخابرات العامة ، لكن الملف إذا فتح وجرى التحقيق فى الموضوع من خلال لجنة محايدة لتقصى الحقائق، فإن هناك عشرات بل مئات الشهود الذين بوسعهم أن يؤكدوا وجود السجن ويتحدثون عن التعذيب الجهنمى الذى تعرضوا له فى زنازينه المبنية تحت الأرض، ومنهم من يستطيع أن يحدد أسماء بعض إخوانهم الذين قتلوا إما بسبب إطلاق الرصاص عليهم أو بسبب التعذيب، وهؤلاء مستعدون للشهادة ومواجهة الرجل بحقائق تجربتهم فى سجن المخابرات، إذا أعطوا الأمان بطبيعة الحال.

لقد تحدثت إلى بعض من أطلق سراحهم منهم، فقالوا إنهم اقتيدوا من الخارج على طائرات خاصة، بعضها عسكرية أمريكية فى النصف الثانى من التسعينيات. جاءوا من باكستان وأذربيجان ومن كرواتيا والبوسنة ومن بعض دول الخليج.
 وبعد وصولهم أدخلوا من مطار القاهرة دون أن تختم جوازات سفرهم، وتم إيداعهم بدون أى تسجيل فى سجن المخابرات العامة، الذى لا يعرف مدى قانونية وجوده، وفى داخل السجن تعرضوا لكل ما يخطر على الباب من أدوات التعذيب والترويع والاستنطاق، قبل أن يقرر مصيرهم ويحالون إلى جهات أخرى ــ أمن الدولة فى الأغلب ــ فى ضوء المعلومات التى تم تحصيلها منهم. وهؤلاء غير المصريين الذين أتت بهم المخابرات المركزية الأمريكية، ثم بعد التحقيق حولوا إلى جوانتانامو أو إلى أية سجون أخرى.

تحدثت إلى واحد قضى أربع سنوات من التعذيب فى سجن المخابرات، لم ير خلالها ضوء الشمس ثم أودع فى سجن العقرب الذى قضى فيه عشر سنوات، وبرأته المحكمة العسكرية بعد ذلك!

وسمعت قصة الشاب طلعت فؤاد قاسم الذى تم اختطافه من كرواتيا، حيث كان فى طريقه إلى البوسنة، وبعد وصوله تم قتله فى مقر المخابرات العامة، وليس هناك ما يثبت أنه دخل مصر أصلا.

إن السيد عمر سليمان الذى عرض قطع يد شقيق أيمن الظواهرى وإرسالها إلى واشنطن للتأكد من حمضه النووى، يعتبر التيارات الإسلامية جميعها خصما له. وهى ذات المعركة التى خاضها حسنى مبارك طيلة سنوات حكمه مستخدما فى ذلك «سوطه» الذى أشار إليه التقرير الأمريكى فيما نشرته أمس فى هذا المكان.

انطلاقا من رؤيته تلك فإنه اعتبر المقاومة الإسلامية الفلسطينية عملا إرهابيا، وعناصرها إرهابية ــ قال لى شاهد عيان حضر اجتماعا فى مدينة «سرت» بين العقيد القذافى والرئيس السابق، اقترح فيه الرئيس الليبى على مبارك أن ينفض يده من القضية الفلسطينية لكى يركّز ــ معه ــ فى القضايا الأفريقية. (شتم الفلسطينيين وقال إنهم ألعن من الإسرائيليين) ــ حينذاك رد اللواء سليمان الذى كان حاضرا قائلا إن الشأن الفلسطينى صار جزءا من الأمن القومى المصرى، لأن فى غزة نصف مليون إرهابى يهددونها، قاصدا بذلك حركة حماس التى اعتبر أن إسقاط حكومتها فى غزة هدفا استراتيجيا.

هذه القصة تكشف عن موقف الرجل الحقيقى من المقاومة الفلسطينية، وكيف أنه ظل متبنيا طول الوقت لوجهة النظر الإسرائيلية، التى لم تصف المقاومين إلا بأنهم إرهابيون.

إضافة إلى أنها تلقى ظلالا من الشك حول موقفه من المصالحة الفلسطينية خصوصا بين فتح وحماس، كما تثير شكوكا أخرى حول موقفه من حصار القطاع ودوره أثناء الاجتياح الإسرائيلى لغزة.

إن السيد عمر سليمان يهدد الجميع بما لديه من أسرار، ملوحا بحكاية الصناديق السوداء التى يقول إنه يحوزها بحكم وظيفته. وهو ما نرجوه أن يفعله شريطة أن يبدأ بنفسه وبدوره فى فضائح وكوارث عصر مبارك. ومن الواضح أن بعض رجاله يحاولون الآن إطلاق بالونات الاختبار وسحابات الدخان لصرف الانتباه عن ملفه. وفى الوقت نفسه فإنهم يسعون جاهدين إلى «غسيل» الرجل ليصبح أكثر بياضا تحسبا لاحتمالات المستقبل. وهو ما لاحظناه فى بعض الحوارات الصحفية التى أجريت معه وفى التقارير التليفزيونية التى تحدثت عنه. ولا تنس أن رجال النظام السابق لايزال لهم حضورهم فى الإعلام المصرى.

إن الذين يسوِّقونه ما برحوا يقولون إنه رجل شديد الذكاء وبعيد النظر، لكنى صرت أشك فى صحة ذلك التقييم بعدما تقدم بنفسه للترشيح، لأنه لو كان كما يقولون لآثر أن يبقى فى الظل شاكرا لله ولأهل القرار أنهم لم يضموه إلى جماعته فى مزرعه طرة، وقد فضحته تصريحات أصدقائه الإسرائيليين الذين لم يكتموا شعورهم وأعلنوا عن ابتهاجهم بترشحه. ولِمَ لا والرجل مدرج عندهم ضمن «كنز إسرائيل الاستراتيجى»!

الاثنين، 9 أبريل 2012

إهانة للثورة وتحدٍّ لها ... بقلم فهمى هويدى


ينبغى أن نتوجه بالشكر إلى نائب الرئيس السابق السيد عمر سليمان لأنه ذكرنا بأن فى مصر ثورة تحتاج إلى إنقاذ من عبث المهرجين ومغامرات المزايدين وحماقات الهواة والمحدثين، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نصف اجتراء الرجل على ترشيح نفسه لرئاسة مصر بأنه يمثل تحديا للثورة واحتقارا لها، حتى أكاد أزعم أن هذه الخطوة بمثابة منازلة علنية من جانب أركان النظام السابق وفلوله، جاءت بعد 48 ساعة مع إعلان مرشح آخر من ذات الفريق عن أن حسنى مبارك مثله الأعلى. الأمر الذى يوجه إلينا عدة إشارات لها دلالاتها المهمة، من بينها أو على رأسها أن العسكر يطرقون الأبواب، ولم يدركوا بعد أن زمانهم ولَّى.

ولئن أدهشنا وحيَّرنا دفع الإخوان بمرشح لهم فى سباق الرئاسة، فإن دخول السيد عمر سليمان بعد تردد وإحجام يصدمنا، حتى إذا لم يكن التردد حقيقيا وإنما استخدمه المخرج المجهول لجس النبض والتشويق. ذلك أن أحدا لم يكن يتصور أن الرجل الذى ظل يقف وراء مبارك طوال عشرين عاما، حتى اصطفاه واختاره فى النهاية نائبا له وأمينا على نظامه يمكن أن يعود مرة أخرى ليجلس على مقعد رئيس مصر. وهى التى ثارت على مبارك بعدما فاض بها الكيل وقرر شعبها بعد ثلاثين عاما من حكمه أن ينتفض رافضا استبداده وإذلاله وفساده، هو وحاشيته، ودفع لأجل ذلك ثمنا غاليا من دماء أبنائه.

الآن وقعت الواقعة. إذ فى حين توقعنا أن ينضم الرجل إلى رفاقه نزلاء مزرعة طرة، خصوصا أنه كان أخطر بكثير من بعضهم، فإننا فوجئنا به منضما إلى قائمة المتنافسين على دخول قصر العروبة. إزاء ذلك فمن حقنا أن نتساءل كيف حدث ذلك ولماذا؟

قبل أن أحاول الإجابة ألفت النظر إلى أربعة أمور. الأول أننى لا أتحدث عن الشخص، الذى قد يكون له فضائله، لكننى أتحدث دوره وموضوع ترشحه للرئاسة. إن شئت فقل إنه لا شأن لى بسيرة الرجل. ولكننى معنى بمسيرته. الأمر الثانى أننى لا أستطيع أن أجزم بأن ظهوره جزء من مؤامرة مدبرة، ولا أستبعد أن تكون تداعيات المشهد بعد الثورة هى التى شجعته على الإقدام على الخطوة التى اتخذها. بالتالى فلن أتطرق إلى سيناريو المؤامرة. الذى يعد خوضا فى المجهول. وسوف أتوقف عند التداعيات التى أشرت إليها، باعتبارها من قبيل المعلوم الذى يلمسه الجميع ويعايشونه.

الأمر الثالث أننى أفهم أن الرجل بحكم موقعه رئيسا لجهاز المخابرات العامة لديه أهم الملفات وأخطرها، الأمر الذى مكنه من أن يعرف أكثر مما ينبغى عن مختلف الأطراف المشاركة فى المشهد السياسى الراهن، سواء كانوا من أهل القرار أو كانوا من المرشحين المنافسين وليس لدى علم بمدى إسهام تلك الخلفية سواء فى إبقائه خارج المساءلة عن نظام مبارك الذى كان أحد أعمدته أو تشجيعه على خوض معركة التنافس على الرئاسة.

الأمر الرابع أن الرجل بدا مستغفلا لنا ومستخفا بنا كثيرا حين وعد فى بيان عودته إلى الترشح «بإنجاز التغيير المنشود واستكمال أهداف الثورة». وهو فى ذلك تجاهل أو تناسى أن تغييره شخصيا كان منشودا باعتباره الذراع الرئيسية لمبارك، وأن التخلص من أركان النظام الذين كان واحدا منهم كان من أهداف الثورة. وقد صدق الرجل فى فقرة واحدة حين قال إنه كجندى لم يعص أمرا فى حياته، لكنه صدق منقوص لأنه لم يذكر أنه لم يعص أمرا لمبارك، الأمر الذى أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من تدهور ومهانة. وحين نقرأ العبارة بهذا المعنى فإن ما قاله الرجل يصبح عليه وليس له.

إذا دققنا فى التداعيات التى ظهر فى ظلها السيد عمر سليمان فسنجد أنها تتمثل فيما يلى:

استمرار الانفلات الأمنى الذى بلغ إحدى ذُراه فى مذبحة بورسعيد ــ بقاء ميدان التحرير كما هو فى قلب القاهرة، بقبح منظره وهيمنة البلطجية عليه واستفزازه لكل العابرين فضلا عن أصحاب المصالح، ــ استنزاف رصيد الاحتياطى النقدى واستمرار تراجع البورصة ــ الشد والجذب بين الحكومة ومجلس الشعب الذى هددها بسحب الثقة ــ شل حركة القطاع الصناعى وتشديد وطأة الضغط على المزارعين بالمصدرين ــ انكشاف عجز الحكومة فى مسألة تسفير الأمريكيين المتهمين فى قضايا التمويل الأجنبى ــ تخوف المجتمع من نفوذ الإخوان ومناظر السلفيين وتصرفاتهم ــ الصراع بين القوى السياسية حول تأسيسية الدستور ومضمونه ــ اتساع نطاق الانفلات والاحتجاج الذى دفع البعض إلى تعطيل القطارات والبواخر النيلية.

أمثال هذه التداعيات يمكن أن تقرأ بحسبانها من توابع الزلزال الذى حدث فى مصر، ويمكن أن تقرأ بحسبانها من آيات التشرذم والفوضى التى تهدد بانفراط عقد المجتمع وتهديد هوية وكيان الدولة. وأغلب الظن أن نائب الرئيس السابق وجماعته راهنوا على القراءة الثانية. حتى رأينا بعضهم قد كتب إلى جانب صورته التى رفعت فى مظاهرة مؤيديه يوم الجمعة الماضى عبارة تقول: علشان خاطر أنقذ مصر، وهى عبارة مضحكة ومبكية فى الوقت نفسه، لأن الثورة التى قامت لتنقذ مصر من مبارك وأعوانه، تقدم لها فى نهاية المطاف واحد من الأعوان لكى يكون منقذا لها. الأمر الذى يثير السؤال التالى: كيف السبيل إلى إنقاذنا من المنقذ المنتظر؟! ــ لنا فى الموضوع كلام آخر يوم الأربعاء بإذن الله.

الجماعة والمجتمع ... بقلم : د/ عمرو الشوبكى


ربما يكون قرار جماعة الإخوان المسلمين بالدفع بخيرت الشاطر فى انتخابات الرئاسة هو القرار الأخطر فى تاريخها، وإن كل المبررات الديمقراطية التى تعطى الحق للجميع فى الترشح لانتخابات الرئاسة لا تصمد كثيرا أمام أى قراءة موضوعية لطبيعة اللحظة الحالية ولوضعية الجماعة، وهى كلها أمور تجعل هذا القرار واحداً من أسوأ القرارات التى اتخذتها الجماعة منذ تأسيسها عام 1928 على يد الإمام الراحل حسن البنا.
فهناك قرارات كبرى قسمت الجماعة وعرّضتها لمحن عديدة فى فترات سابقة، بعضها يتعلق بانفلات التنظيم الخاص وقيامه بعمليات عنف فى عامى 1948 و1954، وبعضها الآخر يتعلق بإدارة العمل داخل الجماعة بصورة أدت لحدوث بعض الانشقاقات داخلها.
أما قرار الترشح فى انتخابات الرئاسة فقد جاء بعد أن شهدت الجماعة التحول الأهم فى تاريخها، وهو تأسيسها حزباً سياسياً شرعياً منفصلاً نظرياً عن الجماعة، بما يعنى اعترافها بضرورة وجود أداة حزبية لممارسة العمل السياسى والدخول فى اللعبة الديمقراطية الوليدة لأول مرة فى تاريخها كحزب سياسى شرعى يعلن رغبته المشروعة فى الوصول للسلطة.
ويمكن القول إن العالم العربى عرف موجات سياسية مختلفة قبل موجة «الربيع العربى» الحالية، أولاها الموجة شبه الليبرالية التى غطت عدداً من أقطاره، ومنها مصر والمغرب وتونس وسوريا والعراق، وفشلت إما بسبب الاحتلال أو النظم الملكية وأداء النخب السياسية، ففتحت الباب أمام انقلابات ثورية قام بها الجيش، فظهرت الموجة القومية الاشتراكية التى قادها جمال عبدالناصر فى مصر وتبنت تجربة تحرر وطنى رائدة على المستويين العربى والعالمى، وتعثرت فى بناء نظام سياسى ديمقراطى أسوة بغالبية تجارب التحرر الوطنى التى شهدها العالم الثالث وجلبت الاستقلال ولم تجلب الديمقراطية.
وبغياب «عبدالناصر» وتحول مصر فى عهد «السادات» نحو اليمين، بدت البلاد كأنها قد عرفت تجارب اشتراكية ورأسمالية اعتبرها كثير من الإخوان تجارب فاشلة، وبدأوا فى الترويج لما سمى البديل الذى لم يُجرب أى «النظام الإسلامى».
والحقيقة أن ما سمى «البديل الإسلامى» طُبق فى بعض البلاد كالسودان وأفغانستان، وكانت نتائجه كارثية، وطُبق فى قالب حضارى وديمقراطى حديث، وكانت نتائجه شديدة الإيجابية مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا، وبشرط رئيسى هو دخول الإسلاميين اللعبة السياسية وفق قواعد دستورية وقانونية موضوعة سلفاً، احترموها أولا ثم عدلوها ثانيا، وهو على عكس الحالة المصرية التى سلم فيها المجلس العسكرى قواعد اللعبة للإخوان، فأعطى للأغلبية الحق فى كتابة الدستور بعد أن أسقط دستور 71 ووضع بدلا منه إعلاناً دستورياً مرتبكاً وباهتاً، فأصبحوا متهمين منذ البداية بالاحتكار والاستحواذ.
والحقيقة أن تقدم الإسلاميين فى بلاد الربيع العربى، مثّل فرصة تاريخية لم تتح لتجارب إسلامية أو قومية سابقة، وهى أن وصولهم للسلطة سيجىء عبر صندوق الانتخاب وليس عبر انقلاب عسكرى أو ثورة أسقطت النظام والدولة معا وأعادت بناءهما على أسس «ثورية» على طريقة الثورات الشيوعية الشمولية، فتعطى حصانة للاستبداد باسم الثورة، إنما عبر ثورة حديثة سعت لإسقاط النظام وإصلاح الدولة بهدف بناء نظام ديمقراطى مثلما جرى فى كل بلاد العالم فى الأربعين عاما الأخيرة من أوروبا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية، مروراً بإسبانيا والبرتغال وتركيا.
والمؤكد أن نجاح الإخوان فى الانتخابات الأخيرة رغم ما شابها من انتهاكات يعكس شعبية حقيقية وكفاءة تنظيمية بعيدا عن قصة قلة الوعى والتجهيل الذى تعرض له المجتمع المصرى فى عهد «مبارك»، وتتحجج بها بعض التيارات المدنية لتغطى على فشلها.
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن فى ظل معادلة تقوم على قوة الإخوان وضعف الأحزاب المدنية والمجلس العسكرى، تقابلها أصوات احتجاجية تعلو وتخفت: ما المدخل الأمثل لقبول المجتمع ومؤسسات الدولة الصلبة وصولهم إلى السلطة؟
تجارب النجاح تقول لنا إن أى قوى أو جماعة راديكالية تأتى من خارج المنظومة السياسية السائدة، أياً كان الرأى فيها، لابد أن تتبنى خطاباً مطمئناً وإصلاحياً لا تبدو فيه أنها ستسيطر أو ستحتكر الحياة السياسية، وأنها ستكتب الدستور والقوانين الأساسية، وتوجه جهاز الدولة، وهو ما رآه قطاع واسع من النخبة المصرية، وأقل فى الشارع المصرى.
إن الجماعة ظلت خارج دائرة الحكم والإدارة حتى فى الفترات التى كانت تتمتع بشرعية قانونية، وظلت دوائر الحكم والمؤسسات الأمنية والعسكرية ترتاب فى الإخوان منذ أكثر من نصف قرن باعتبارهم خطراً على الدولة والنظام، والأمر نفسه انسحب على فريق من القوى السياسية ومن النخبة وقطاع واسع من المسيحيين المصريين.
وحين تمتلك الجماعة تراثاً عمره أكثر من 80 عاماً خارج دائرة الحكم وخارج دائرة العمل الحزبى، فهل يعقل بعد 6 أشهر من تأسيس حزبها الوليد «الحرية والعدالة» أن يسعى للسيطرة على كل مناصب الدولة من برلمان إلى حكومة إلى رئاسة جمهورية؟ وهل يمكن أن ترشح جماعة رفضت أن تحترم قوانين الدولة المصرية بالحصول على ترخيص قانونى، رئيساً لهذه الدولة التى تعاملت مع قوانينها باستعلاء، فلا هى جمعية أهلية ولا شركة ولا مؤسسة حتى بدت كأنها فوق الدولة والقانون، ورفضت إلى الآن أن تكيف وضعها مع القوانين الموجودة كما جرى مع حزب الحرية والعدالة الذى التزم بقانون الأحزاب الذى لم يضعه؟
إن ما سميناه من قبل «الدمج الآمن» للإخوان يستلزم الوصول المتدرج للسلطة وبشكل غير انقلابى، وبعد أن تكون الجماعة والحزب قد طبّعا نفسيها مع قوانين الدولة الموجودة، وأن يكون وصول الإخوان للحكم لا يعنى قلب كل المعادلات السياسية بجرة قلم، فقواعد الديمقراطية معناها النسبية والتدرج فى التحولات، فتركيا التى وصل فيها الراحل نجم الدين أربكان للحكم فى عام 1995 وتبنى مشروعاً بدا أنه ينقلب على قواعد الدولة التركية، تم إسقاطه فى عام 1997 بدور مباشر للجيش، و«أردوجان» الذى وصل إلى الحكم عبر مشروع ديمقراطى حديث غيّر كثيراً من المعادلات السائدة فيما يعرف فى تركيا بـ«الدولة العميقة» بشكل متدرج مما جعل حزب العدالة والتنمية الرقم الأساسى فى المعادلة السياسية التركية.
صحيح أن هناك بعض الاتجاهات فى مصر لا تقبل وجود التيار الإسلامى حتى لو جاء بالديمقراطية، لكن هناك أغلبية كثيرة فى مصر تقبل التيار الإسلامى وترى أنه لا مستقبل لهذا البلد إلا بوجود تيار إسلامى ديمقراطى حديث، لكنها ليست على استعداد لأن تقبل بقيام هذا التيار بتشكيل الحكومة وكتابة الدستور واختيار رئيس الجمهورية بل ووضع جماعته الدينية فوق الجميع، حتى هؤلاء الذين كانوا جزءاً منها، كالدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح الذى نال احترام من اتفقوا واختلفوا معه، ولا يستطيع أحد أن يزايد على تدينه ووطنيته وإيمانه بمشروع إسلامى وسطى ومنفتح، ومع ذلك فُصل من الجماعة لأسباب تراجعت عنها الجماعة مؤخرا.
إن مخاطرة الجماعة بهذا القرار كبيرة، وكان فى يدها أن تشكل حكومة بعد 4 أشهر وتقدم رئيساً بعد أربع سنوات، لكنها اختارت خياراً خطراً للغاية، وأخشى أن تدفع مصر والجماعة وكل المؤمنين بوجود تيار إسلامى ديمقراطى يسهم فى نهضة هذا البلد ثمناً باهظاً نتيجة هذا القرار المتسرع.

الأحد، 8 أبريل 2012

فى عصر الملفات المفتوحة ... بقلم : فهمى هويدى


لا نعرف على وجه الدقة كيف ستنتهى مسألة حصول والدة حازم أبوإسماعيل على الجنسية الأمريكية الأمر الذى قد يخرجه من سباق الانتخابات الرئاسية، لكن الذى أعرفه أن مصر بعد الثورة دخلت عصر الملفات المفتوحة، والحريات التى لا سقف لها. أعنى أنه لم يعد بمقدور أى أحد مهما علا شأنه أو بلغت سطوته أن يتحصن بوظيفته أو قوته ليكون فوق النقد والتحرى والتجريح أحيانا، كما يحدث فى أى مجتمع مصرى يعترف بحق المجتمع فى أن يعرف كل شىء عن الذى يؤدون أدوارا فى المجال العام. وإذا كان فقهاء المسلمين قد ابتكروا «علم الرجال» الذى يقوم على فكرة «الجرح والتعديل» لتحديد وزن كل واحد من رواة الأحاديث النبوية، للاستيثاق من مكانته وأمانته بما يمكنهم من تحديد مدى قوة الحديث المروى أو ضعفه، فإن ممارسات المجتمعات الديمقراطية أخضعت كل المشتغلين بالعمل العام لمعايير الجرح والتعديل أيضا. صحيح أنها اختلفت من مجتمع إلى آخر تبعا لاختلاف القيم السائدة، لكن الفكرة الأساسية ظلت واحدة، وهى أن ملف الشخصية العامة يجب أن يكون مفتوحا أمام الجميع.


ليست بعيدة عن أذهاننا ما نشرته جريدة الدستور فى عام 2007 عن مضمون تقرير طبى تحدث عن الحالة الصحية للرئيس السابق، وهو ما تحول إلى قضية انتهت بالحكم على زميلنا الأستاذ إبراهيم عيسى بالسجن ستة أشهر، خففت بعد الطعن إلى ثلاثة أشهر، وانتهت بـ«العفو» عنه من قبل الرئيس المذكور، وكانت العملية كلها بمثابة تحذير «وشدَّة أذن» أريد بها تنبيه القاصى والدانى بأن «المقامات العَلِيَّة» ليست ككل الناس، وأخبارها لا ينبغى أن تلوكها ألسنة العامة، ولم يكن الأمر مقصورا على الفرعون وأهل بيته فحسب، ولكن الحصانة شملت الكهنة المحيطين به، الأمر الذى أسدل ستارا كثيفا من الصمت حول كل عمليات اغتصاب البلد وتجريفه، وفى ظل تلك الأجواء تمت أكبر صفقات النهب، سواء فى بيع القطاع العام وتوزيع الوكالات التجارية الكبرى على المحاسيب والأقارب أو فى إهدار الثروة العقارية للبلد، كما وقعت الجرائم الكبرى التى جرى التلاعب فيها واحتواؤها، من حوادث احتراق قطار الصعيد وقصر ثقافة بنى سويف إلى كارثة عبارة الموت التى تواطأت أجهزة السلطة فى تهريب صاحبها وتحويل جريمة قتل أكثر من ألف مواطن إلى جنحة، وصولا إلى تورط نفر من أبناء النظام المدللين فى قتل المطربة اللبنانية فى دبى.

اختلف الأمر الآن، واستعاد المجتمع حقه فى أن يطلع على ملفات كل رجال العمل العام. (والنساء بطبيعة الحال). حيث لم يعد الأمر يطلب بذل أى جهد غير عادى، لأن المعلومات باتت فى متناول الجميع. إذ من خلال الإنترنت أو شاشات التليفزيون والصحف السيارة أصبح بمقدور كل ذى عينين أن يمارس حقه فى أن يعرف. من تفصيلات قصة أنف البلكيمى إلى بيانات جواز السفر الأمريكى الخاص بأم المرشح حازم أبوإسماعيل وشائعة تهرب السيد عمرو موسى من التجنيد قبل خمسين عاما (التى كذبت لاحقا) مرورا بقصة التجديد بعد سن الستين لزوجة رئيس أركان القوات المسلحة، وحكاية مليارات الصناديق الخاصة التى لا يعرف أحد أين ولا كيف تنفق، وقصة سيارة رئيس مجلس الشعب الـ(BMW) التى احتج البعض على شرائها له، ثم تبين أنها قديمة وكانت مخصصة لرئيس المجلس السابق.

المناخ الجديد لم يتح معلومات وخلفيات الشخصيات العامة لكل أحد فحسب، ولكنه أيضا أدى إلى تعرية كثيرين ممن ظهروا على المسرح السياسى بعد الثورة، فعرفنا الذين انتفعوا أو انتفخوا، وعرفنا الذين سال لعابهم أمام الغواية فتنافسوا على مصادر التمويل الأجنبى. تماما كما عرفنا الثوار الحقيقيين الذين ظلوا قابضين على الجمر، وحريصين على أن يدفعوا لا أن يقبضوا. وحين فتن واحد من المنتفعين بالنجومية التليفزيونية المفتعلة وألقى كلمة فى احتفال للقوات اللبنانية فى بيروت وصف فيها زعيم تلك الفرقة بأنه رجل ملهم وأنه رمز للثورة والصمود. (رغم أن للرجل سجله الأسود فى الذاكرة الوطنية اللبنانية) ــ هذه السقطة لم تمر. إذ لم تمض دقائق حتى كانت أخبار الفضيحة حاضرة على الإنترنت ومثار استهجان البعض وسخرية وتندر البعض الآخر.

كثيرون لم ينتبهوا إلى ذلك المتغير المهم فى أجواء ما بعد 25 يناير، خصوصا أولئك الذين ما برحوا ينعون إلينا الثورة ويقولون إنها إما خطفت وسرقت أو أنها لم تقع أصلا. وكنت أعتقد أن السيد عمر سليمان نائب الرئيس السابق حين أعلن عن عدم اعتزامه ترشيح نفسه للرئاسة. كان يعى أن مصر تغيرت وانتقلت إلى عصر الملفات المفتوحة، ومن ثم أدرك أنه لو تقدم للترشيح لا نفتح ملفه خلال السنوات العشرين الأخيرة من حكم مبارك، ولما خرج من التجربة سالما. ومن ثم آثر الكمون وفضل أن يظل واقفا على البر، ولكن أما وقد خيَّب الرجل هذا الظن فليسمح لنا بأن نفتح الملف ونستدعى بعض عناوينه، حتى يتذكر من نسى ويفيق من غَفَل أو استعبط.

حلم من أجل الوطـن ... بقلم : د/ عبدالمنعم أبوالفتوح


حين خرجت من (السجن) عام 2000 بعد خمس سنوات من الانقطاع عن الدنيا والحركة والناس كان يطوف بخاطرى مشاهد تلو مشاهد يمتد مداها بطول الوطن وعرضه وتتسع جوانبها لتمتد فى بعد التاريخ وعمقه مستحضرة فى مشهد حيرة المصريين بعد خروج الحملة الفرنسية 1801م، والتى أسفرت عن الاختيار الشعبى لمحمد على 1805م ثم انكساره فى 1840م. ومشهد آخر لعرابى وهو على جواده عام 1882م مذكرا الخديو توفيق ان المصريين لن يستعبدوا بعد اليوم.. ومشهد آخر لعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى عام 1923م يلاحقه مشهد النحاس، وهو يصيح صيحته الشهيرة عن معاهدة 1936.

يراوحه مشهد حسن البنا عام 1948، وهو يجرى متشبثا بسيارة الترحيلات التى تقل اخوانه وتلاميذه قائلا: اعتقلونى قبلهم أنا مرشدهم.

ثم مشهد آخر لدبابات الجيش فى الشوارع والناس تهتف لها عام 1952م ثم المشهد الشهير لتأميم القناة يلامسه مشهد ضباطنا العائدين عام 67 ومشهد جنودنا، وهم يصعدون الساتر الترابى عام 73..

كانت هذه المشاهد تتوالى، وتتوالى وتزداد تكثيفا وبروزا فى وعيى وخاطرى يوما بعد يوم.. وكانت الحيرة تحوطنى من كل جانب بين ظروف حركية غير مواتية وواقع سياسى متحجر وفاسد.. وأمام العين شعب يسير فى الشوارع والطرقات لا يدرى من أمر حاضره ولا مستقبله شيئا. وكنت كأنى أسمع أنينهم المكتوم فى صدورهم يغلى كغلى الرصاص.. كان الأمل يتشبث بى كما يتشبث الطفل بأبيه لا يعرف غيره.. وكان بيت الشعر الشهير للشاعر العربى: أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. يرن فى أذنى وأظل أردد.. لولا فسحة الأمل.. لولا فسحة الأمل.. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون والعياذ بالله.

●●●

حتى شاء الله العلى القدير وانفسحت فرجة الأمل، وكان 25 يناير وكان التحرير.. وأطلت المشاهد السابقة برءوسها كلها من جديد.. وبت أنظر إلى الناس فى الشوارع والطرقات.. الناس هم الناس لكن الوجوه غيرالوجوه والعيون غير العيون.. هناك شىء عميق تغير فى هؤلاء الناس.. لقد أصبحوا أحرارا.. ما عادت كوابيس الاستبداد تضغط على صدورهم وأنفاسهم.. لقد أشرقت عليهم إشراقات الحرية.. حقهم فى أن يكونوا بشرا أحرار الإرادة والاختيار.. ولم يبقَ إلا واجبات ذلك الحق. وسواء طالت إرهاقات ما بعد الحرية ام قصرت.. ستأتى تلك الواجبات.. أعرف المصريين كما أعرف نفسى.

حين تنفسنا هذا الهواء بات من حقنا أن يكون لنا حلم.. نرويه بندى هذا الصباح الذى طالت لياليه كأنها الدهر كله.. ونهدهده بتلك الخواطر التى ذكرتها قبلا والتى ما تلبث إلا أن تتراءى أمام أعيننا فى حشود متتالية كأنها تصرخ فينا أنا أيام مجدكم الذى طال فيه انتظاركم.. فهل أعددتم له عدته وهيأتم له قوته؟

نحلم للوطن بالإنسان المصرى الأبى الذى يعرف واجباته كما يعرف حقوقه لا يخشى إلا خالقه وبينه وبين الدنيا من حوله الاخلاق والقانون.. وأن الدين الخلق فمن زاد عنك فى الخلق زاد عنك فى الدين.. ومن نقص عنك فى الخلق نقص عنك فى الدين.

نحلم للوطن بمدرسة فى كل قرية ونجع وكفر يتربى فيها الإنسان قبل أن يتعلم.. فيعرف ربه ويعرف نفسه ويعرف وطنه ويعرف الدنيا وكل ما تقتضيه هذه المعرفة.

نحلم للوطن بالإنسان السليم النظيف.. سليم البدن والتفكير نظيف اليد والضمير.

نحلم للوطن بأن يكون قبلة السياح فى العالم أجمع.. وكيف لا وشمسه لا تغيب وفى مدنه ثلث آثار العالم أجمع.

نحلم للوطن باقتصاد صلب القواعد والأسس يقوم على سواعد أبنائه زراعة وصناعة وعلى عقول أبنائه بحثا واستكشافا، وعلى نشاطهم تجارة وسياحة وبناء وعمرانا.

نحلم للوطن بأن يكون تاج الشرق قوة وعزة ومنعة. لا يهتز حجر فى الإقليم والمنطقة إلا وعين مصر ترعاه وتهديه.

نحلم للوطن بأن يكون منارة للحضارة الإنسانية.. وها هو أزهره الشريف حصن الوسطية وحافظ الشريعة، وها هى مكتبة الإسكندرية حصن العلم ونبع الفكر على مدى التاريخ.

نحلم للوطن بعمران فضائه فى سيناء والوادى والواحات. فيمتلئ بالشجر والبشر.

نحلم للوطن بوحدته الطبيعية.. فيبنى مسلموه الكنائس ويبنى أقباطه المساجد.. وفى المدرسة والجيش يجمعهم وجه الوطن نيلا ونخيلا وشعبا عظيما نبيلا.

نحلم للوطن بسلطة قوية تخضع لمجتمع قوى.. ملىء بالمؤسسات والجمعيات والروابط والنقابات والمجالس.

●●●

حين استخرت الله وتوكلت عليه فتقدمت لانتخابات الرئاسة كى أكون مرشحا لعموم المصريين.. كنت أعلم أن هناك رابطا روحيا بينى وبين جموع الناس لا أعرفه تحديدا ولكنى كنت أتنفسه ملء صدرى، وأشعر به فى جنبات ضميرى.. وصدق حدسى وكانت فرحتى فرحتين.. فرحة بهذا التصديق وفرحة أخرى بهذه الجموع من الشباب الذين تطوعوا للعمل معا فى مشروع (مصر القوية).. الذى نحمله فى أحضاننا وفوق رءوسنا.. ناذرين له العمر كله والجهد كله وكل ما تستطيعه أكفنا وعقولنا.

على أن نهضتنا فى هذا المشروع العظيم (مصر القوية) إنما تكون بأيادى كل أبنائه وعقول كل رجاله ونسائه.

ففى الأحزاب سيجد المشروع امتداده وصداه وفى الجمعيات والهيئات سيجد المشروع بُناته ومداه.

مدرسة الإخوان المسلمين حصن الإصلاح الكبير وقلعة التربيه العميقة.. حزب الوفد والأحزاب الليبرالية الجديدة مدرسة الحريات والنخب الوطنية الرفيعة. أحزاب اليسار رايات العدالة الاجتماعية والتقارب الوطنى.

كل هذه الصروح والكيانات أيادينا فى أياديها ننسج معا حلمًا من أجل الوطن.. حلم (مصر القوية).. وما هو إلا يسير إن شاء الله حتى يكون الحلم حقيقة.. (والله غالب على أمره).

محاولة فاشلة لاستخدام العلم والمنطق ... بقلم : د/ معتزبالله عبدالفتاح


محاولة استخدام المنطق لعلاج مشكلات مجتمع لا يعترف بالمنطق هى محاولة غير منطقية فى حد ذاتها، كما أن محاولة استخدام العلم لعلاج مشكلات مجتمع لا يعترف بالعلم هى محاولة غير علمية فى حد ذاتها، لماذا؟ لأن العلم لا يعيش إلا فى مجتمع يحترمه أو على الأقل يعرف أن له دورا فى تحسين ظروف أبنائه، ولو سادت بين الناس ثقافة لا تحترم العلم ولا تعرف له قيمة مباشرة فى خدمتهم، فإن العلم، وأهله، سيرحل عنهم.

●●●

لا أنسى قصة طريفة لكن لها دلالة شديدة حين احتجت أن أصلح سيارتى، فذهبت إلى صديقى الميكانيكى الذى كان يدرس معى فى المرحلة الإعدادية واختار أن يترك التعليم وأن يلتحق بمهنة أسرته، وأنا قررت أن أستمر فى الدراسة إلى أن عملت فى الجامعة معيدا. وذات يوم احتجت لصديقى الميكانيكى لإصلاح عيب فى السيارة، وبعد شىء من الجهد، أصلحه وذهبنا معا لنجرب السيارة بعد إصلاحها. ولأننى كنت مشغولا بمتابعة صوت السيارة بعد إصلاحها، لا أتذكر بدقة كافية كيف سار الحوار إلى هذه النقطة التى سألنى فيها صديقى الميكانيكى: «وإنت بتشتغل إيه؟»

فكانت الإجابة أننى أعمل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ثم أتبع متسائلا: «يعنى بتبيع إيه يعنى؟»

وفى ظل انشغالى بالاستماع لصوت السيارة، قلت له دون تبسيط كاف كلاما من قبيل: أدرس إدارة شئون الدولة وقضايا الحكم والديمقراطية وترشيد عملية صنع القرار السياسى. وطبعا ما كان ينبغى أن أستخدم هذه المفردات فى الإجابة لعلمى أن صديقى توقف عمليا عن القراءة إلا فيما يتعلق بشئون كرة القدم.


وفجأة سألنى سؤالا لم أكن أتوقعه: «إنت سيارتك عطلت، فأتيت لى كى أصلحها؛ أنا لمّا يحصل إيه أذهب إليك؟».فكانت إجابتى: أنك غالبا لن تحتاج لى بهذا المعنى! وقبل أن أنتهى من توضيح فكرتى: بادرنى بالاستنتاج الذى وصل إليه: يعنى «ما لكش لزمة» (أى لا حاجة لى عندك)!

وعلى الرغم من أن الإجابة صادمة لكنها تعكس منطقا خدميا بالأساس. هو يريد خدمة مقابل خدمة وإلا فالعلم لا قيمة له عنده بنفس منطق الطلبة المشاغبين الذين استنتجوا أن «العلم لا يكيل بالباذنجان» على سبيل السخرية من مقولة تنسب إلى فيلسوف مسلم كبير اسمه الفارابى والذى اعتبر أن تحصيل العلم هو المصدر الأكبر للسعادة ولو عليه أن يختار بين العلم والمال، لاختار العلم لأنه لا يمكن أن يُقدّرَ بالمال.

●●●

إذن نحن أمام مواقف عديدة يمكن أن يتبناها الإنسان بين هذين النقيضين: إما منطق الفارابى وإما منطق مدرسة المشاغبين.

وكلما تابعت أخبار مصر وجدت أن تقدير العلم والعلماء فيها هو مسألة تسجيل موقف أو رفع عتب أو كلمات تقال بلا سند من ثقافة تحترم أهل العلم بحق وهذا هو سبب رحيلهم المتتابع عن مصر أو انشغال الكثير منهم بعمل خاص قد لا يكون للعلم فيه نصيب كبير وكأن المجتمع المصرى يتحول تباعا إلى مدرسة مشاغبين كبيرة. والمشكلة أن العقل الذى لا يحترم العلم ويقدر أهله يفتح المجال مباشرة للخرافة والفهلوة. وكلاهما آفة تزرع فى العقل جرثومة التخلف.

ولا يخفى على حضراتكم أن باحثين كثيرين اجتهدوا فى كيفية إخراج الجمعية التأسيسية للدستور بل والدستور نفسه إلى دائرة النور على هدى خبرات دول كثيرة مرت بما نمر به، وبعضها واجه صعوبات جمة يمكن للعين الدارسة أن ترصدها وأن تبتكر أدوات وآليات يمكن من خلالها تجنب الوقوع فيها. وقد ظننت ومعى باحثون واعدون أننا يمكن أن نضيف إلى عملية صنع القرار السياسى فى مصر شيئا من المنطق وبعضا من العلم عسى أن نساعد هؤلاء فى ألا يرفعوا كلفة قيادتهم لنا. ولكن هيهات، لا بد أن نتعلم بتكلفة عالية للغاية.

ألا تتذكرون رواية «قنديل أم هاشم» التى صور فيها يحيى حقى صراع العلم مع الخرافة؟ فالدكتور إسماعيل ذهب إلى الغرب ليتعلم طب العيون وعاد إلى بيئته التى اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركا وأملا فى الشفاء. وهنا كان الصراع بين مصدرين من مصادر المعرفة: العقل ممثلا فى العلم والدراسة الأكاديمية، والمجتمع متمثلا فى الخرافة والأساطير. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظنا من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل فى علاج مرضاه ووصفه له بأن خرافة ودجل. لكن العالم الحق حكيم يعرف أن من واجبات العلم أن يستوعب الخرافة ليقضى عليها.

وقد فعلها بطل «قنديل أم هاشم» بأن وضع العلاج الطبى السليم فى زجاجات تشبه الزجاجات التى كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل وأوهم الناس، أو هكذا فعل، أنه يعالجهم بزيت القنديل. وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذى أتى به وللعقل الذى يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والمعرفة، وهكذا فإن للعلم بيئته التى تحترم العقل، فمحاولة استخدام العلم فى علاج مشكلات مجتمع لا يحترم العلم، هى محاولة غير علمية بل وغير عقلانية فى حد ذاتها.

●●●

إذن فالعقل كمصدر للمعرفة ينبغى أن يقود المجتمع، لكنه لن يفعل إلا إذا حكم وساد وسيطر على أجهزة الدولة والمجتمع معا حتى يواجه قرونا من الخرافة والغيبيات والأساطير اللاإيمانية.

لقد تراجع العلم والتفكير العلمى بشدة فى مجتمعنا وأصبحنا أمام غلبة لأى حد يقول أى حاجة بلا أى مرجعية إلا نفسه. وقد كنت أظن أن الحزب الوطنى أفسد المصريين، وأن تغيير النخبة الحاكمة سيفتح الطريق أمام التفكير العلمى. ولكن العشوائية التى تدار بها مصر لمدة سنة على الأقل تؤكد أمرا أصبح من المسلمات بالنسبة لى وهو أن المجتمع المصرى وكأنه عمل حادثة ففقد جزءا كبيرا من أهليته للقياس النظرى السليم، ناهيك عن التفكير المنطقى السليم.

إن أهل العلم والثقافة مهما تعلموا واطلعوا فهم يعيشون فى ظل مجتمع معاد للعلم، مع الأسف، وتسيطر عليه ثقافة «تعالى نجرب، هو حد فاهم حاجة). الحقيقة أننى اعتقدت فى مرحلة ما من حياتى أننى ربما أستطيع أن أساعد مصر والمصريين، ولكننى بمرور الوقت أصبحت أستشعر أننى أقرب إلى قول الشاعر: نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ ... وآخرُ سعى العالمين ضلالُ

وليس لنا من علمنا سوى ...أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم من جبال قد علا شرفاتها ...رجالٌ، فبادوا والجبال جبال

الخميس، 5 أبريل 2012

لسنا بحاجة لثورة مضادة ... بقلم : فهمي هويدي

نأسف لإبلاغكم بتوقف عمليات الشحن والتفريغ بميناء شرق التفريعة ببورسعيد منذ عشرة أيام، مما اضطر معه المصدرون والمصنعون المصريون إلى تحويل الشحن لميناء الإسكندرية حتى أصابه التكدس نتيجة تجاوز طاقته الاستيعابية هو ما أدى إلى توقف عمليات التحويل تماما. ونظرا لتكرار ذلك الحدث دون تدخل حاسم وإجراء رادع من جانب الجهات المصرية المسئولة فقد أوشك المصدرون والمصنعون على فقدان العقود التصديرية المبرمة مع كبرى الشركات العالمية واهتزاز الثقة فيهم. وسينعكس ذلك على الاقتصاد المصرى الهش نتيجة مثل هذه المواقف العبثية غير المسئولة. وقد وردت إلينا معلومات تفيد بأن كبرى شركات الملاحة العالمية التى تعمل فى مصر تفكر جديا فى نقل عملياتها إلى دول أخرى نظرا للخسائر الفادحة التى تكبدتها. وبالفعل فقد قامت شركة «ميرسك لاين إيجيبت» (أكبر شركات الشحن الهولندية) بنقل عملياتها إلى مالطة، مما سيؤدى حتما إلى زيادة تكلفة الشحن والتفريغ وتكدس الموانئ الأخرى. إزاء ذلك لنا أن نتساءل:

● لمصلحة من تدمير الصناعة المصرية ووقوف المسئولين موقف المتفرج على هذه المهزلة المتكررة دون إجراءات رادعة وحاسمة ضد كل من تسول له نفسه إلحاق الضرر بالاقتصاد المصرى؟

● لماذا لم يستمع المسئولون إلى الصرخات والاستغاثات المتكررة للمصنعين المصريين لوضع آليات للتعامل مع مثل هذه الأزمات؟

● هل سننتظر حتى يعلن المصنعون المصريون إفلاسهم وتسريح العمالة لديهم؟

خلال اليومين الماضيين كان نص الرسالة أعلاه موزعا على مكاتب كل الصناعيين المصريين الذين تضامنوا معها، بعدما فاض بهم الكيل. وقال لى أحدهم إنها تعبر عن جانب من مأساة العاملين فى ذلك القطاع، الذين أصبحوا ثلاث فئات. فئة ندمت على دخول مجال الصناعة وثانية قررت أن تعتصم بالصبر لحين استعادة بعض مستحقاتها قبل أن تصفى أعمالها. وفئة ثالثة قرر أصحابها أن يغلقوا مصانعهم ويسرحوا عمالهم، قبل أن يتفرغوا للتقاعد أو يحزموا حقائبهم ويهاجروا إلى بلاد الله الواسعة، وهؤلاء بخلاف الذين لم يحتملوا استمرار نزيف الخسائر فصفوا أعمالهم وأستراحوا.

لا أخفى أن هذه الصورة فاجأتنى، لأن ما تنشره وسائل الإعلام يعطى انطباعا مغايرا تماما ويوهم الجميع بأن الاجتماعات التى تعقد تعمل جاهدة على تذليل الصعاب، والقضاء على العقبات التى تحول دون تحريك المياه فى بحيرة الصناعة الراكدة.

هى عودة إلى شعار «كله تمام»، الذى كان يستخدم للتغطية على الكوارث، والتستر على الجرائم التى ترتكبها البيروقراطية. هكذا قال أكثر من واحد من خبراء القطاع الصناعى الذين رجعت إليهم. واستغربت قولهم إن ما يحدث الآن هو تجريف وتدمير منظم لذلك القطاع، إن لم يكن يتم بسوء نية فإنه يعد فى حده الأدنى إهمالا جسيما يرقى إلى مستوى العمد، كما يقول أهل القانون. طلبت إيضاحا فقالوا لى إن للأزمة أوجها أخرى تتمثل فيما يلى:

● إن الجهاز المصرفى غدا عبئا على الصناعة وليس معينا لها. ذلك أنه أصبح يوجه ما لديه من سيولة لصالح شراء سندات الحكومة وأذون الخزانة. بالتالى فإنه أصبح عاجزا عن تمويل تنمية القطاع الصناعى. ليس ذلك فقط وإنما أصبح يمارس ضغوطا قوية على الشركات الصناعية لتحصيل مستحقاته، دون أى مرونة أو اعتبار للظروف الصعبة التى مر بها القطاع الصناعى خلال العام الذى أعقب قيام الثورة. وترتب على ذلك تراكم الخسائر والفوائد على الشركات الصناعية، مما اضطر بعضها إلى إشهار الإفلاس والتصفية فى نهاية المطاف. وهى صورة تبعث على التشاؤم وتثير سؤالا كبيرا حول دور البنك المركزى الذى يقف متفرجا على التدهور الحاصل دون أى حراك يذكر.

● إن الدور الذى كانت تقوم به الدولة لتشجيع الصادرات تراجع إلى حد كبير ثم توقف تماما. فبعد أن كانت المبالغ المخصصة لهذا الغرض فى حدود 4 مليارات جنيه، فإنه تم تخفيضها إلى مليار و800 ألف فقط، ثم بدا أن العملية ستتوقف تماما بعد ذلك. ومن شأن ذلك التراجع أن يرفع تكلفة الإنتاج، وأن يضاعف من خسائر الشركات التى أعدت ميزانياتها على أساس وجود ذلك الدعم. وحين يتوقف فانها ستضطر إلى تسريح بعض عمالها على الأقل.

● ثمة تقاعس حكومى غير مفهوم وغير مبرر عن رد أموال الربط الضريبى، التى يدفعها المنتج لتوفير بعض احتياجاته فى السوق المحلية. إذ حسب النظام المتبع فإن المصدر يدفع 10٪ ضريبة مبيعات عن الخامات التى يشتريها من الداخل، وفى نهاية العام وبعد أن يثبت أنه قام بالتصدير فعلا، ترد إليه قيمة الضريبة التى دفعها، لكن الحاصل الآن أن الجهات المختصة تمتنع عن الرد وتختلق مختلف الذرائع لذلك. وتكون النتيجة أن كل مصنع كبير أصبح دائنا للحكومة بعدة ملايين من الجنيهات لكنها تتملص فى الدفع. فى حين أن صاحب المصنع لو تأخر 24 ساعة عن سداد التأمينات المطلوبة منه، فإنه يحول إلى النيابة العامة!

● فى الوقت الراهن فإن القطاع الصناعى يبدو مهلهلا وبلا صاحب. فلا توجد جهة مسئولة تحل له مشاكله أو تسمع لشكواه وتتعامل معها بجدية، ولا يوجد مسئول مستعد لاتخاذ قرار فى حل تلك المشكلات، كما ان مجتمع رجال الأعمال يبدو متشرذما تتجاذبه المصالح والحسابات الخاصة وتضغط عليه رواسب المرحلة الماضية. الأمر الذى يسهم فى تعقيد المشكلات وتوسيع نطاق الركود، ويشيع القلق والحيرة بين الصناعيين.

أحد الصناعيين الكبار علق على المشهد قائلا بأن إصلاح التخريب فى القطاع الصناعى ليس أمرا هينا، ولكنه يتطلب أجيالا، وأن ترك الأمر على ما هو عليه، الآن لا يحتاج إلى أى تدبير من جانب الثورة المضادة، لأن ما يحدث على الأرض يحقق لتلك الثورة ما تريد وزيادة

السبت، 31 مارس 2012

أخطأ الإخوان ... بقلم : فهمى هويدى


الخبر أن حركة النهضة التونسية أعلنت أنها ستبقى فى دستورها الجديد على النص الذى يقرر أن «تونس دولة حرة لغتها العربية، ودينها الإسلام». وقبلت بعدم الإشارة إلى مرجعية الشريعة الإسلامية. وهى النقطة التى أثارت لغطا فى أوساط المثقفين العلمانيين الذين يهيمنون على مقدرات البلد منذ الاستقلال فى ستينيات القرن الماضى. 

وفى تفسير موقف الحركة قال أحد قيادييها ــ عامر العريض ــ نحن حريصون على وحدة شعبنا، ولا نريد شروخا فى المجتمع. هذا الموقف لم يعجب دوائر المتطرفين والمزايدين الذين اتهموا الحركة بخيانة التونسيين. ونقلت وكالة رويترز على لسان أحدهم قوله: إن كثيرين سيعتبرون أن الحركة تاجرت بالدين للوصول إلى السلطة، واليوم تتاجر بالتخلى عنه والتفريط فيه للبقاء فى السلطة (جريدة الشروق 27/3).

بسبب سفرة قصيرة إلى الخارج لم أتابع الخبر فى حينه، لكنى ما إن وقعت عليه بعد العودة حتى وجدته مدخلا مهما للحديث عن الحالة المصرية الراهنة، وموقف الإخوان المسلمين من لجنة كتابة الدستور، وكيف أنهم مع السلفيين أسهموا فى تعميق الشرخ فى مصر، فى حين كان بوسعهم بقدر من التواضع والحرص على وحدة الجماعة الوطنية أن يجنبوا مصر التوتر الذى شهدته طيلة الأسبوع الماضى، ولو أنهم فعلوا ذلك لكنا قد انتهينا من مسألة تشكيل اللجنة ولكانت عملية كتابة الدستور قد بدأت بالفعل، علما بأن تضييع الوقت فى الجدل حول التشكيل يمكن أن يؤثر حتى على انتخاب رئيس الجمهورية وتسليم السلطة للمدنيين فى 30 يونيو المقبل.

الفرق بين موقف حركة النهضة فى تونس وبين الإخوان فى مصر، أن الأولين اهتموا أكثر بوحدة الشعب فى حين أن الآخرين اهتموا ــ على الأقل فى المشهد الراهن ــ بحضور الجماعة وحظوظها. وهذا خطأ سياسى يجب الاعتراف به، ومن الشجاعة أن يراجع ويصوب، ومن الحكمة أن يتحول إلى درس يستفاد منه فى منهج تعامل الجماعة مع القضايا الأساسية، ومع القوى الوطنية الأخرى.

تحضرنى فى هذا السياق قصة وردت فى القرآن الكريم، تحدثت عن النبى موسى عليه السلام حين غاب عن قومه وتركهم فى عهدة أخيه هارون. وفى غيبته انحرف سلوك القوم حتى عبدوا العجل. وحين عاد النبى موسى وفوجئ بما جرى فإنه نهر أخاه واشتبك معه وذكر النص القرآنى أن هارون قال: « قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَائِيلَ» (سورة طه ــ الآية 94) ــ وهى القصة التى أبرزها الدكتور يوسف القرضاوى فى حديثه عما أسماه «فقه الموازنات والأولويات». ذلك أن هارون سكت على إقدام قومه على عبادة الشرك من دون الله، حرصا على وحدتهم، بمظنة أنه إذا ما ضغط عليهم لكى يعودوا إلى عبادة الله فسوف ينفرط عقدهم ويتشتت شملهم. من ثم فإنه وازن بين حالة الشرك العارضة، وبين وحدة القوم التى تعد قيمة استراتيجية بلغة زماننا، فإنه قدم الوحدة باعتبارها مصلحة كبرى. وسكت على الشرك تجنبا للفتنة. وهى الحجة التى قبل بها النبى موسى ولم ينكرها عليه.

فى المشهد الذى نحن بصدده فى مصر، سعى الإخوان ومعهم السلفيون إلى ما اعتبروه حقا لهم باعتبارهم يشكلون الأغلبية فى البرلمان. وتحقق لهم ما أرادوا. ثم ماذا كانت النتيجة؟ حدث ما حذر منه بنو إسرائيل، حيث تفرق القوم على النحو الحاصل، الأمر الذى أدى إلى تعميق الشرخ فى الوطن، بما استصحبه ذلك من إشاعة عدم الثقة بين القوى الوطنية وإلهاء الناس عن همومهم الحياتية. ولا تسأل عن المليارات الأربعة التى خسرتها البورصة.

فى أى موازنة عاقلة، سنجد أن الخسارة التى منى بها الوطن، بل تلك التى منيت بها جماعة الإخوان على الأقل، أضعاف «المكسب» الذى يبدو ضئيلا وبلا قيمة.

عندى بعد ذلك نقطتان. الأولى أنه إذا قال قائل إن الأقلية تثير ضجيجا بمناسبة وبغير مناسبة، وأن منهم من لا يعترضون على حظوظ الإخوان فقط وإنما على وجودهم أصلا، فلن أختلف معه من حيث المبدأ لكنى أضيف أمرين. الأول أن بينهم عناصر وطنية تستحق الاحترام وينبغى ألا يخسرها الإخوان تحت أى ظرف. والثانى أن الأخطاء التى ترتكبها الجماعة هى التى توفر لذوى النوايا السيئة رصيد الضجيج الذى ينشدونه. النقطة الثانية أن المرونة التى أدعو إليها والنظر إلى المصلحة العليا للوطن لن تعجب بعض المتشددين من السلفيين أو غيرهم، وربما ذمَّوا الإخوان بمثل ما قيل بحق حركة النهضة فى تونس، لكن ذلك لا ينبغى أن يكون سببا للتراجع أو التردد لأن مصلحة الوطن ــ فى كل الأحوال ــ  ينبغى أن تقدم على ما عداها.